The Policy Initiative

  • eng
    • share
  • subscribe to our mailing list
    By subscribing to our mailing list you will be kept in the know of all our projects, activities and resources
    Thank you for subscribing to our mailing list.
03.29.25

رهينة المصارف: كيف يشير تعيين كريم سعيد إلى نهاية الإصلاح

سامي عطا الله,
سامي زغيب

في 27 آذار 2025، عيّن مجلس الوزراء اللبنانيّ كريم سعيد حاكمًا جديدًا لمصرف لبنان المركزي، لينهيَ بذلك شغورًا حَرِجًا استمرّ منذ 31 تمّوز 2023. ومع ذلك، لم يكن القرار عاديًّا على الإطلاق. فقد كشف التعيين عن توتُّرات سياسية عميقة، بحيث لَقِيَ ترشيح سعيد دعمًا قويًّا من الرئيس جوزف عون، مقابل إصرار رئيس الوزراء نوّاف سلام على النظر في أسماء مُرشَّحين آخرين، وهو خلافٌ تطوّرَ إلى تهديد رئيس الوزراء نفسه بالاستقالة. في نهاية المطاف، تمّ تجاهُل اعتراضات سلام، ودُعِيَ سعيد على عَجَل لعرض خطّته المالية أمام مجلس الوزراء، في محاولةٍ واضحةٍ لإضفاء الشرعية على عمليَّة الاختيار المثيرة للجدل. بعد ذلك، صوَّت مجلس الوزراء لصالح سعيد، بنتيجة 17 صوتًا مؤيّدًا مقابل 7 أصواتٍ مُعارِضة، ممّا يؤكّد نفوذ النخبة السياسية والمالية المُتجذِّر في لبنان. لا يجسّد هذا القرار مناورةً سياسية مُقلِقة فحسب، إنّما يشكّل، على الأرجح، الضربة القاضية للإصلاحات الهيكلية التي وعدت بها الدولة اللبنانية. إنّه يفضح سلطة النخبة المصرفية في لبنان وحلفاءها السياسيّين، ممّا يقوّض، بشكل دراماتيكيّ، الأمل في التعافي الاقتصادي الحقيقي.

لا شكّ في أنّ الطريقة السريعة وغير المُنتظِمة التي تمّ بها هذا التعيين، مع ما يثيره ترشيح سعيد من جدلٍ، تشكّل خطرًا كبيرًا على مصداقية إدارة الرئيس عون، وتشير بشكل فعّال إلى نهاية الإصلاحات الهيكلية الموعودة منذ فترة طويلة في لبنان. وتظهر جرّاء هذا التعيين أربع قضايا جوهريّة تسلّط الضوء على تخلٍّ مُقلِق عن الشفافية، والمساءلة، والالتزام بالتعافي الاقتصادي الحقيقي.

عمليَّة اختيار مُعيبة وتعطيل سياسي

يخالف تعيين كريم سعيد حاكمًا لمصرف لبنان المركزي المبادئَ الأساسية التي التزمت بها الحكومة الجديدة. فعند تولّي الحكومة مهامّها، أعلنت التزامها بإطار عمل شفّاف قائم على الجدارة، يتمّ من خلاله تعيين المناصب الإداريّة العُليا بشكل مُنصِف وقائم على المُؤهّلات، مع العلم أنّ مكتب وزير الدولة لشؤون التنمية الإدارية (OMSAR) تولّى عمليّة إعداده. يهدف إطار العمل هذا إلى معالجة مشكلات المحسوبية الطائفية، والمحاباة السياسية والاقتصادية، واختلالات الكفاءة الإدارية، التي أضعفت الحَوْكَمَة في لبنان بشكلٍ كبير.

ومع ذلك، عندما حان وقت تعيين حاكم المصرف المركزي، تنكّرت الحكومة، بشكل واضح، لهذه الالتزامات. وعلى الرغم من تقديم وزير المالية ياسين جابر ثلاثة أسماء إلى مجلس الوزراء، كان واضحًا أنّ العملية مُوجَّهة لصالح كريم سعيد، في حين لم يُنظَر بجدِّيَّة إلى المُرشَّحَين الآخرَين. علمًا أنّه لم تُجرَ دراسة مُسبَقة لأيّ من المُرشَّحين لفهم برامجهم ومواقفهم من القضايا المالية الحَرِجة، بخاصَّةٍ ما يتعلّق بتوزيع الخسائر. فقد كان كريم سعيد المُرشَّح الوحيد الذي دُعي إلى مجلس الوزراء في يوم التعيين، لا لغرض إجراء مُقابَلة معه، إنّما لمحاولة إقناع رئيس الوزراء بتغيير موقفه.

مُجدَّدًا، يشير تصويت مجلس الوزراء بنتيجة 17 صوتًا مُؤيِّدًا مقابل 7 أصوات مُعارِضة، إلى قدرة الأحزاب السياسية الرئيسة في لبنان، بالرغم من اختلافاتها الأيديولوجية الواسعة، على أن تتَّحِد، وبشكلٍ دائم، عندما يتعلّق الأمر بمعارضة الإصلاحات؛ فحركة أمل، وحزب الله، والقوّات اللبنانية، والكتائب، والحزب التقدُّمي الاشتراكي، وكتلة الرئيس عون نفسه، جميعها أيّدت تعيين سعيد، ممّا يُظهِر نمطًا مُتكرِّرًا، بحيث تتّحد الأحزاب السياسيّة المختلفة للحفاظ على مصالحها المُشترَكة. ولا يمكن أن تُوضَع هذه الوحدة في خانة الصدفة، ذلك أنّ هذه الأحزاب نفسها، منذ بداية الأزمة الاقتصادية في لبنان عام 2020، دأبت بشكل مُتواصِل إلى عرقَلَة إصلاحات حيويّة، إذ لا يخفى على أحد أنّها عملت معًا على إجهاض خطّة لازارد من خلال الإجراءات البرلمانيّة، وعرقلت تمرير التشريعات المُتعلِّقة بالكابيتال كونترول وإعادة هيكلة القطاع المصرفيّ وتعديل قوانين السرِّيَّة المصرفية، هذا عدا عن أنّها عطّلت مرّاتٍ عدّة مفاوضات لبنان مع صندوق النقد الدولي .إنّ دعم هذه الأحزاب المُشترَك لتعيين كريم سعيد يؤكّد، منطقيًّا، الإصرار الجماعيّ على الإبقاء على الوضع القائم، ومقاومة أيّ تغيير اقتصاديّ جادّ.

نفوذ اللوبي المصرفي

يقف وراء تعيين كريم سعيد اللوبي المصرفي اللبناني النافذ، الذي أدّى دورًا حاسمًا ومحوريًّا في ضمان حصوله على هذا المنصب، وعرقلة الإصلاحات التي تهدّد مصالحه المالية. وقد نجح هذا اللوبي في وضع مُستشارين موالين للمصارف ضمن الدوائر السياسية المؤثِّرة، بخاصّةٍ في محيط الرئيس عون، ممّا ضمن نفوذه المباشر على التعيينات الحسّاسة والقرارات الاقتصادية الحيويّة. ومن اللافت أنّ أحد المُستشارين المُقرَّبين من الرئيس، الذي دعم بقوَّة ترشيح سعيد، يشغل أيضًا منصب عضويَّة مجلس إدارة الشركة التي يملكها سعيد نفسه، ممّا يوضح عمق هذه العلاقة المُتشابِكة.

إضافةً إلى التأثير السياسي المباشر، نشط اللوبي المصرفي في تمويل حملات إعلامية مُكثَّفة تهدف إلى تشويه صورة القادة السياسيّين الساعين إلى الإصلاح، وبخاصّةٍ رئيس الوزراء نوّاف سلام ومحاولاته تشكيل حكومة إصلاحية. ولم تقتصر تكتيكاتهم على ذلك، بل امتدّت لتشمل رفع دعاوى قضائية وممارسة ضغوط قانونية ضدّ مُنظَّمات المجتمع المدني، والإعلام المُستقِلّ، والمراكز البحثية، التي تدعو إلى الإصلاح المالي وتكشف تواطؤ القطاع المصرفي في التسبُّب في الأزمة وإطالة أمدها.

تداعيات خطيرة على الإصلاح المالي ودور المصرف المركزي

يثير تعيين كريم سعيد شكوكًا كبيرة حول قدرة الحكومة اللبنانية واستعدادها لتنفيذ الإصلاحات المالية العاجلة والمُلِحَّة. فلبنان يقف اليوم عند مفترق طرق حَرِج وحاسم، حيث يتوقّف التعافي الاقتصاديّ، بشكل كبير، على تنفيذ إصلاحات هيكلية أوصى بها صندوق النقد الدولي، والتي ترتكز على مبادئ واضحة: المسؤولية المالية، والشفافية في الحكم، وتوزيع عادل للخسائر، وإعادة هيكلة شاملة للقطاع المصرفي.

ولا رَيْبَ في أنّ لحاكم المصرف المركزي دورًا محوريًّا في هذه العملية، إذ تُوكَل إليه مهمّة توجيه السياسة النقدية، والإشراف على تنظيم القطاع المصرفي، وإدارة سوق الصرف الأجنبي، وتمثيل لبنان في المفاوضات المالية الدولية الحسّاسة.

في ضوء هذه المسؤوليّات الحيويّة، تثير سياسة سعيد المُعلَنة مخاوف جدِّيَّة، إذ إنّ مقترحاته تبدو مُصمَّمة بشكل خاصّ لحماية المصارف ومصالح أصحاب النفوذ فيها، في مقابل تحميل المُودِعين وعامّة الشعب العبءَ الأكبرَ من الخسائر المالية المُتراكِمة. والأكثر إثارةً للقلق هو أنّ إستراتيجيّته تشمل تصفية أصول الدولة الأساسية، أو رهنها، بما فيها احتياطي لبنان من الذهب، في سبيل حماية المصارف من إعادة الهيكلة اللازمة.

لا يناقض هذا المنحى مبادئ العدالة والمساواة فحسب، بل يتنافى أيضًا مع شروط الإصلاح التي يفرضها صندوق النقد الدولي، ممّا يؤدّي إلى شَلَل هذه الجهود والإبقاء على واقع تدميريّ تستفيد منه فئة ضيّقة من نخبة المصرفيّين على حساب المواطنين العاديّين.

إرث الرئيس عون الإصلاحي موضع تساؤل

في غضون أقلّ من شهرَين على تولّيه الرئاسة، تبدّد التزام الرئيس عون بالإصلاح بشكل فعليّ؛ ذلك أنّ تعيين سعيد لا يعكس قوّة الرئاسة، إنّما يُظهر عجز الرئيس عون، أو ربّما عدم رغبته في مواجهة مصالح النخبة المالية المُتجذِّرة.

قد يظنّ بعضهم -وهو ظنّ خاطئ- أنّ إصرار الرئيس عون على تعيين سعيد يجسّد قوّة الرئيس، وأنّ الرئيس الماروني نجح في فرض مرشّحه المفضَّل على رئيس الحكومة السنِّيّ. إلّا أنّ الحقيقة مُختلِفة بشكلٍ جوهري. فقد استسلم الرئيس عون فعليًّا لضغوط اللوبي المصرفي، مُغلِقًا بهذا باب الإصلاح الحقيقي، ومُعزِّزًا الأزمة الهيكلية التي يتحمّل تكلفتها المواطنون من مختلف الطوائف في لبنان.

 


From the same author

view all

More periodicals

view all
Search
Back to top