- eng
-
- share
-
subscribe to our mailing listBy subscribing to our mailing list you will be kept in the know of all our projects, activities and resourcesThank you for subscribing to our mailing list.
البيان الوزاري اللبناني: فرصة ضائعة في بوتقة الضبابية السياسية

أنهى رئيس الوزراء نوّاف سلام، الأسبوع الماضي، البيان الوزاري الخاصّ بحكومته، وأرسله إلى مجلس النوّاب للتصويت عليه ومنح الحكومة الثقة من عدمها، في الجلسة التي ستُعقَد يومَي 25 و26 شباط الجاري. وعلى الرغم من أنّ البيان الوزاري يهدف إلى تحديد رؤية الحكومة وأولويّاتها السياسية وفق الدستور، فقد استخدمته الحكومات المتعاقبة كأداء إجرائيّ في سياق المناورات السياسية بدلًا من كونه إحدى أدوات الحَوْكَمَة؛ فقلّما عدّته الحكومات برنامجًا مُلزمًا لها، إذ ما إن يحظى البيان بموافقة البرلمان حتّى يُغيّب في الأدراج.
ولكن، لربّما نشهد وضعًا مغايرًا هذه المرّة. ذلك أنّ هذه الحكومة، بخلاف سابقاتها، ليست نتاجًا مباشرًا من سلالة الطبقة الحاكمة المسيطرة في لبنان؛ فلا ينحدر الرئيس، ولا حتّى رئيس الوزراء، من مراكز القوى التقليدية التي عاثت فسادًا في البلاد ووقفت سدًّا أمام الإصلاحات، إذ وصل كلاهما إلى السلطة على الرغم من الأحزاب السياسية الحاكمة، وتمكّنا من تشكيل حكومة من 24 وزيرًا، نصفهم من ترشيحهما الشخصي، وبالتالي لن تتمكّن أيّ طائفة سياسية من حشد ثلث الأصوات وحجب الثقة عنها، لا سيّما أنّ جميع الوزراء، باستثناء ثلاثة منهم، يتقلّدون للمرّة الأولى منصبًا وزاريًّا، كما أنّ ثلثهم يأتي من خلفيّات مهنية أو استشارية. وهذا الأمر وحده كفيل بتقديم فرصة فريدة لاستخدام البيان الوزاري من أجل وضع خطّة سياسية حقيقية، خطّة تحرّر الحكومة من القيود السياسية التي لطالما شدّدت الخناق على الحكومات السابقة.
ولكن ما تمخّض عن الحكومة لم يكن سوى وثيقة صيغت بحذر لترضي الجميع، من دون الالتزام بشيء. فباستثناء القضايا الأمنية والسيطرة على السلاح، لم تتّخذ أيّ موقف حازم بشأن أهمّ القضايا اللبنانية الملحّة، ولم تقدّم خطّةً للتعافي الوطني، ذلك أنّها كانت أقرب إلى تقديم إشارة دبلوماسية للأطراف الدولية الفاعلة، لا سيّما في ما يتعلّق بالقرار 1701.
هيمنة القضايا الأمنية وتهميش الانهيار الاقتصادي والاجتماعي
لعلّ أبرز ما يتّسم به البيان الوزاري افتقاره للموازنة بين القضايا المهمّة، إذ نجده يركّز على القضايا الأمنية والجيوسياسية على حساب القضايا الاقتصادية والاجتماعية. فقد استحوذت القضايا الأمنية على نصف البيان الوزاري، بما يوازي ثلاث صفحات وثلث الصفحة من أصل سبع صفحات، ما يشكّل تباينًا صارخًا بالنظر إلى حجم انهيار الأوضاع المحلِّية في لبنان.
ومن دون أدنى شكّ، جاء هذا الانهيار في أعقاب الحرب المدمّرة التي أجهدت حزب الله سياسيًّا وعسكريًّا، وخلّفت لبنان في وضع جيوسياسي غير مستقرّ. وعليه، من الطبيعي أن تشدّد الحكومة على ترسيخ الاستقرار، والردع، والامتثال لقرار مجلس الأمن التابع للأمم المتّحدة رقم 1701. وخلافًا للحكومات السابقة، وضعت هذه الحكومة الدولة في صميم الشؤون الأمنية، مؤكّدةً بذلك على دورها في حماية الحدود الوطنية والسلم المدني، ما يُعَدّ -ولو على مستوى الخطاب- ابتعادًا عن البيانات السابقة التي اعتادت اختيار صيغ أكثر دبلوماسية عند التطرُّق إلى القضايا المتعلّقة بالسيادة. وفي حين يضع البيان التزامات لبنان الأمنية على طاولة المجتمع الدولي، نراه قد أغفل، وبشكل كبير، الأزمات الاقتصادية التي دفعت بالبلد نحو حافة الهاوية. ففي الوقت الذي يشهد لبنان كسادًا اقتصاديًّا غير مسبوقٍ في ظلّ انهيار مؤسَّسات الدولة، وإخفاق القطاع المصرفي، وانتشار الفقر، لم يقدّم البيان أيّ رؤية واضحة عن خطط الحكومة لمعالجة أيّ من هذه القضايا التي تشكّل خطرًا وجوديًّا على لبنان. كما أنّ الحكومة لم تأتِ على ذِكر أيِّ مؤشّر حول توجّهاتها لإنقاذ اقتصاد لبنان، ولم تتّخذ موقفًا تجاه أكثر القضايا المالية المثيرة للجدل، بتحديد الجهة التي يتعيّن عليها تحمّل أعباء الانهيار الاقتصادي: المودعين أم المصارف أم الدولة؟ نعم، لقد تعهّدت الحكومة بإجراء إصلاحات، ولكنّها لم تتطرّق إلى ذكر المسؤول عن الانهيار المالي، متجنِّبةً بذلك القضيّة الأكثر إلحاحًا بالنسبة إلى المواطن اللبناني، ألا وهي المساءلة الحقّة.
وسيلة لبعث الرسائل السياسية عوضًا من الحَوْكَمَة
بخلاف ابتعاد البيان الوزاري عن القضايا الجوهرية، فقد صيغ بحذر وانتقائية بالغة حتّى لا يكون معيقًا، إلى درجة أنّه شكّل وثيقة دبلوماسية أكثر منه بيانًا للحكم. كذلك، تجنّب البيان مواجهة هياكل القوّة المسيطرة التي لطالما أعاقت تقدّم لبنان، كما لم يقدّم توجُّهًا جديدًا جريئًا، بل حاول إرضاء جميع الطوائف السياسية وأصحاب المصلحة من المجتمع الدولي، من دون إثارة غضب أيّ طرف.
فعلى الجانب الأمني، اتّخذ عمدًا نهج التحوُّط، مؤكّدًا أنّ اتّخاذ قرارات الحرب والسلم بيد الدولة وحدها، مشيرًا في الوقت ذاته إلى «حق لبنان في الدفاع عن النفس»، ونجح بهذا في إبقاء موضوع دور حزب الله العسكري مبهمًا. وتأتي هذه الموازنة في سياق تجنُّب حدوث أيّ مواجهة، وتقديم ما يكفي من الضمانات للأطراف الدولية الفاعلة التي تطالب بسيادة الدولة، من دون معاداة القوى السياسية المحلِّية التي تصرّ على منح حزب الله وضعًا عسكريًّا.
أمّا بشأن التعافي الاقتصادي، فيكرّر البيان وعودًا مبهمة حول الإصلاحات، وإعادة هيكلة القطاع المصرفي، وحماية الودائع، لكنّه لا يوضح وجود أيّ خطّة حقيقية. وفي حين يُقرّ البيان بالمفاوضات الجارية بين لبنان والبنك الدولي، إلّا أنّه لا يوضح الآليّة التي سيتّبعها لتسوية الإصلاحات الضرورية، في ظلّ مطالب النخب السياسية والمصرفية القوية المُعرَّضة للخسارة في حال إجراء إعادة هيكلة للقطاع.
وفي ما يتعلّق بالسياسات الاجتماعية، فقد تجنّب البيان طرح حلول منظَّمة، واكتفى بذكر تعهُّدات عامّة حول تحسين الرعاية الصحِّية، والتعليم، وتوفير الحماية الاجتماعية، من دون إدراج السياسات الوطنية الرئيسة، مثل الإستراتيجية الوطنية للحماية الاجتماعية التي كانت ستقدّم إطارًا لاتّخاذ خطوات فاعلة على أرض الواقع. ويشير غياب هذه السياسات إلى أنّ هذه القضايا لا تزال أمورًا ثانوية للحكومة، ولا تُذكر إلّا من باب الذكر، من دون أن تكون ضمن سياق الأولويّات الجادّة.
إخفاق البيان في تحفيز التغيير
بالنظر إلى حكومة تفتقر إلى الدعم الحزبي التقليدي، كان البيان ليشكّل فرصة لفتح الباب أمام مِخيال سياسي جديد يضع حجر الأساس لحَوْكَمَة من نوع مختلف، قادرة على حشد دعم شعبي واسع، ومواجهة ديناميّات القوى المسيطرة في لبنان. فلقد كان بوسع الحكومة أن تتّخذ ببيانها الخطوة الأولى نحو تغيير حقيقي بتقديمها وثيقة مرجعية تستند إليها الحكومات في المستقبل.
ولكن، بدلًا من ذلك، استندت الحكومة إلى المعادلات السياسية القديمة المهترئة؛ فتجنّبت الصدام، وقدّمت تعهُّدات مبهمة، من دون تحديد خطوات فاعلة يمكن قياس أثرها، أو تتيح المساءلة، فانتهى بها الأمر إلى محاكاة الخطابات الفارغة للحكومات السابقة. لم يُصَغ هذا البيان الوزاري للمُضيّ بلبنان قُدمًا، بل خضع لهندسة دقيقة من أجل الخروج بصيغة حذِرَة تضمن نجاة الحكومة بإرضاء جميع الطوائف، وضمان حُسن النيّة دوليًّا، وتجنُّب إثارة القوى التي لطالما وقفت عائقًا أمام الإصلاح.
ليست فرصة ضائعة فحسب، وإنّما خطوة في الاتّجاه الخطأ
قدّمنا في تحليل سابق ما يتعيّن على الحكومة فعله لإثبات جدِّيّتها لاقتناص فرصة الإصلاح النادرة هذه. ففي ظلّ القيود السياسية وهيمنة النخب المسيطرة، نرى أنّ على الحكومة أن تتجاوز العوائق التشريعية التقليدية، وتصبّ تركيزها على ثلاثة مجالات رئيسة هي: وضع رؤية إستراتيجية لمستقبل لبنان، وترسيخ ثقافة الشفافية والمشاركة العامة، وإعادة بناء مؤسّسات الدولة من الصفر.
ولكن ما تقوم به الحكومة هو العكس تمامًا؛ ذلك أنّها لم تضع رؤية إستراتيجية لمستقبل لبنان الاقتصادي والسياسي في ضوء تغيُّر الديناميّات الإقليمية، كما أنّها لم تقدّم توجُّهًا بعيد المدى، ولم تطرح حوارًا وطنيًّا أو خارطة طريق تُخرج لبنان من دوّامة النموذج الاقتصادي الفاشل. وبدلًا من إشراك عامّة الناس والمجتمع المدني والانخراط معهم في حوار مفتوح، لا تزال الحكومة تحصر نفسها في آليّة اتّخاذ قرار هرمية بعيدة عن الشفافية، متجنِّبةً تفعيل أيّ مساءلة حقيقية، وغاضّة الطرف عن الفرص السانحة لحشد دعم شعبي واسع النطاق للإصلاح.
ولو أنّ الحكومة اتّخذت خطوات تدريجية في هذه الاتّجاه، لكانت زرعت بذورًا لتحوُّل جذريّ أعمق في المستقبل؛ إلّا أنّها، عوضًا من ذلك، عزّزت الديناميّات التي لطالما جعلت لبنان متخلّفًا عن الركب لعقود مضت، إذ لا تزال تقدّم بيانات وتعهُّدات مُبهَمة، وتحافظ على التوازنات السياسية التي ترسّخ الوضع القائم بدلًا من تغييره.
لا يحتاج لبنان اليوم إلى بيان وزاري آخر زاخر بالتحوُّطات الدبلوماسية والمصطلحات الأمنية، إذ هو في أمسّ الحاجة إلى رؤيةٍ وخطّة، كما إلى اتّخاذ خطوات جريئة تنهض به من شلل السياسات العقيمة. لكنّنا، عوضًا من ذلك، حصلنا على وثيقة تضمن مواصلة السير على النهج البالي ذاته.
From the same author
view all-
06.14.24
عطاالله: التدّخل السياسي عقبة أمام تطوّر الإدارة العامة
سامي عطا اللهمقابلة مع مدير مبادرة سياسات الغد الدكتور سامي عطاالله أكد أن "التدخل السياسي هو العقبة الرئيسية أمام تطور الإدارة العامة"، وشدد على أن دور الدولة ووجودها ضروريان جدًا لأن لا وجود للاقتصاد الحر أو اقتصاد السوق من دونها"
اقرأ -
09.21.23
مشروع موازنة 2023: ضرائب تصيب الفقراء وتعفي الاثرياء
وسيم مكتبي, جورجيا داغر, سامي زغيب, سامي عطا الله -
10.12.22eng
فساد في موازنة لبنان
سامي عطا الله, سامي زغيب
More periodicals
view all-
06.14.24
عطاالله: التدّخل السياسي عقبة أمام تطوّر الإدارة العامة
سامي عطا اللهمقابلة مع مدير مبادرة سياسات الغد الدكتور سامي عطاالله أكد أن "التدخل السياسي هو العقبة الرئيسية أمام تطور الإدارة العامة"، وشدد على أن دور الدولة ووجودها ضروريان جدًا لأن لا وجود للاقتصاد الحر أو اقتصاد السوق من دونها"
اقرأ -
10.27.23eng
تضامناً مع العدالة وحق تقرير المصير للشعب الفلسطيني
-
09.21.23
مشروع موازنة 2023: ضرائب تصيب الفقراء وتعفي الاثرياء
وسيم مكتبي, جورجيا داغر, سامي زغيب, سامي عطا الله -
09.09.23
بيان بشأن المادة 26 من مشروع قانون الموازنة العامة :2023
-
08.24.23
من أجل تحقيق موحد ومركزي في ملف التدقيق الجنائي
اقرأ -
07.27.23
المشكلة وقعت في التعثّر غير المنظّم تعليق دفع سندات اليوروبوندز كان صائباً 100%
-
05.17.23
حشيشة" ماكينزي للنهوض باقتصاد لبنان
-
01.12.23
وينن؟ أين اختفت شعارات المصارف؟
-
10.12.22eng
فساد في موازنة لبنان
سامي عطا الله, سامي زغيب -
06.08.22eng
تطويق الأراضي في أعقاب أزمات لبنان المتعددة
منى خشن -
05.11.22eng
هل للانتخابات في لبنان أهمية؟
كريستيانا باريرا -
05.06.22eng
الانتخابات النيابية: المنافسة تحجب المصالح المشتركة