The Policy Initiative

  • eng
    • share
  • subscribe to our mailing list
    By subscribing to our mailing list you will be kept in the know of all our projects, activities and resources
    Thank you for subscribing to our mailing list.
01.23.25

لبنان أمام فصل جديد: هل يدير عون وسلام دفّة البلاد نحو إصلاح حقيقي؟

سامي عطا الله,
سامي زغيب

جاء انتخاب قائد الجيش جوزيف عون رئيسًا للجمهورية اللبنانية، الذي سرعان ما أعقبه تعيين رئيس محكمة العدل الدولية نوّاف سلام رئيسًا للوزراء، ليبعث نفحة أمل نادرة في بلدٍ رضخ لسنوات تحت نيرِ أزمات اجتماعية ومالية غير مسبوقة، وحربٍ مُدمِّرة مع إسرائيل، وشللٍ سياسي طويل الأمد. أمّا السؤال الذي يُطرَح الآن فهو الآتي: هل بإمكان هذَين الزعيمَين، اللذَين اعتليا السلطة تحت ضغوط محلِّية وإقليمية مُعقَّدة، إدارة دفَّة لبنان نحو مسار إصلاحٍ طالَ انتظاره؟ 

تحمل الحكومة الجديدة، على عاتقها، المهمَّة المزدوجة المُتمثِّلة في تطبيق القرار رقم 1701، وتنفيذ إصلاحات شاملة؛ وسوف يتناول هذا المقال الجانب المُتعلِّق بهذه الإصلاحات. يتراءى لنا أنّ السبيل إلى تنفيذ الإصلاحات محفوف بالعقبات. يعود أوّلها إلى اختلاف القوى المسؤولة عن انتخاب الرئيس عون عن تلك التي أوصلت رئيس الوزراء سلام إلى السلطة؛ أمّا ثانيها فيتأتّى من عدم تأييد أيّ من هذَين الطرفَين السياسيَّين الإصلاحات الضرورية، وكذلك من عدم دعم تنفيذها؛ في حين يكمن ثالثها في النظام المؤسَّسي للحكم القائم على تطبيق اتِّفاق الميثاق الوطني، الذي سيعوّق سبيل الإصلاحات، بغضّ النظر عن نوايا الزعيمَين. وعليه، تدعو الحاجة، في ظلّ الفترة المحدودة المُتاحة أمام الحكومة الحالية قبل إجراء الانتخابات البرلمانية المُقرَّرة في العام 2026، إلى اتّباع نهج إستراتيجيّ للحفاظ على أيّ رأسمال سياسي تملكه، والاستفادة منه للخروج بتصوُّر سياسي جديد للبنان.

حسابات الانتخابات

استغرق وصول جوزيف عون، قائد الجيش آنذاك، إلى سدّة الحكم 26 شهرًا، تخلَّلتها 13 جلسة برلمانية، مع العلم أنّه لم يكن الخيار الأوّل لأيّ من الأحزاب السياسية الكبيرة. وبالرغم من تداول اسمه في الأوساط الإعلامية، فقد رفضه حزب التيّار الوطني الحرّ رفضًا تامًّا، وأحجم حزب القوّات اللبنانية عن تأييده حتّى اللحظة الأخيرة، ولم يشكِّل خيارًا واردًا لحزب الله وحركة أمل في بادئ الأمر. ولم يظهر اسمه في الجلسات البرلمانية الاثنتَي عشرة الأولى - التي عُقدت قبل اندلاع الحرب - على بطاقة الاقتراع، إلّا مرّة واحدة فقط، ولم يحصل إلّا على صوت وحيد بين 15 مرشَّحًا آخرين. وعلى الرغم من هذه العوائق والنقاشات الدستورية المُستمرَّة بشأن أهلية مُوظَّف حكومي لاعتلاء كرسيّ الرئاسة، فقد انتُخب، في نهاية المطاف، في الجولة الثانية التي جَرَت في التاسع من كانون الثاني بأغلبية 99 صوتًا من أصل 128 صوتًا، تحت إشراف أطراف فاعلة دولية وإقليمية.

وجدير بالذكر أنّ هذا الانتصار كان ثمرة تحالفَين جيوسياسيَّين بارزَين. تشكَّل أوّلهما على إثر اندلاع الحرب، التي ضعضعت حزب الله ومنحت الولايات المتّحدة نفوذًا كافيًا للضغط على تكليف أحد قادة الجيش بتنفيذ اتِّفاق وقف إطلاق النار بموجب القرار رقم 1701؛ أمّا التحالف الثاني فكان نتيجةً للتغيُّرات الإقليمية، ولا سيَّما سقوط نظام الأسد في سوريا وصعود النفوذ التركي من خلال مجموعات مثل هيئة تحرير الشام، وهو ما دفع بالمملكة العربية السعودية إلى دعم ترشيح جوزيف عون، بوصفه وسيلةً تحافظ بها على موطئ قدمٍ إستراتيجيّ في بلاد الشام.

تعيين مفاجئ: نوّاف سلام رئيسًا للوزراء

في حين أنّ الضغوط الخارجية وعمليّات إعادة التحالف الإقليمية ساهمت بشكل أساسي في وصول جوزيف عون إلى كرسيّ الرئاسة، جاء تعيين نوّاف سلام رئيسًا للوزراء في سياق مختلف وبقرار داخلي. وعلى الرغم من أنّ معظم الأحزاب الحاكمة دعمت علنًا رئيس الوزراء المؤقَّت نجيب ميقاتي لتولّي ولاية أخرى، في إطار اتِّفاق تقاسُم السلطة، فقد أدَّت المنافسات الشديدة بين النخبة إلى حدوث تحوُّل مفاجئ؛ إذ طرح نوّاب برلمانيّون إصلاحيّون مُعارِضون لميقاتي ومُنافسِه الرئيسي فؤاد مخزومي اسم نوّاف سلام. ووافق التيّار الوطني الحرّ، الذي كان على خلاف مع ميقاتي طوال مدّة تولّيه المنصب، على دعم "أيّ شخص غير ميقاتي"، كما انشقّ حزب القوّات اللبنانية، الذي أبدى استياءه من تهميشه عن الرئاسة، عن "بطاقة" تحالف عون وميقاتي السابقة. كما أنّ العديد من الأحزاب الأخرى، التي كانت حذِرة من دعم حزب الله وحركة أمل لميقاتي، وجدت في سلام بديلًا أكثر قبولًا.

على هذا النحو، عُيِّن سلام في سياق مدفوع بعوامل محلِّية أقوى، مقارَنةً بانتخاب الرئيس. لكن في الحالتَين، كانت وراء وصول الزعيمَين إلى سُدّة الحكم قوى سياسية تسعى إلى تحقيق مكاسب تكتيكية، بدلًا من دائرة انتخابية قويّة تمضي بالبلاد نحو إصلاح سياسي واقتصادي حقيقي.

هل يمكن تنفيذ الإصلاحات الآن؟ 

يحدو المواطنين اللبنانيين أملٌ بأن يترافق المشهد الجيوسياسي المُتغيِّر، والتحالفات الداخلية المُتجدِّدة، مع إصلاحات أصبحت البلاد بأمسّ الحاجة إليها، مثل الإصلاح الشامل للقطاع المالي، وتعزيز الاقتصاد الإنتاجي، وتجديد مؤسَّسات الدولة، وتحسين الرعاية الاجتماعية. بيد أنّ الطُّغَم الحاكمة التي خرَّبت الإصلاحات في الماضي لم تغيِّر مسارها، بل أدَّت بسياساتها إلى إضعاف أجهزة الدولة وتجريدها من قوّتها، ما يزيد من صعوبة تنفيذ الإصلاحات.

هذا وتشير المؤشِّرات الأوَّلية إلى سعي رئيس الوزراء سلام إلى تشكيل حكومة تجمع بين الوزراء السياسيّين والتكنوقراط. ومع ذلك، لا يزال النظام التقليدي لتقاسم السلطة - الذي يستند في ظاهره إلى اتِّفاق المصالحة الوطنية - هو الذي يوجِّه مسار تشكيل الحكومة، ما يعني أنّ الطوائف والأحزاب الرئيسَة ستستمرّ بالمطالبة بحصّتها، ويظلّ تأييدها ضروريًّا لكي تضمن الحكومة تصويت الثقة. ونتيجةً لذلك، من المُرجَّح أن تضمّ السلطة التنفيذية العديد من الأحزاب نفسها التي قاومت الإصلاحات المهمّة، أو عرقلتها، أو أضعفت فعاليتها في الماضي.

يزعم بعض المراقبين أنّه سيجري اعتماد الإصلاحات الآن بعد تراجُع نفوذ حزب الله، مُلمِّحين إلى أنّ الحزب وحده هو الذي كان يقف في وجهها. في الواقع، عرقل الحزب عدّة مبادرات إصلاحية، وحمى السلطة الحاكمة في أثناء انتفاضة العام 2019، وخلال التحقيق في انفجار مرفأ بيروت، ومن طريق تنفيذ السياسات المالية التي أفضت إلى ثبات الوضع الراهن. ومع ذلك، تتحمّل أحزاب أخرى قدرًا مُساوِيًا من المسؤولية في عرقلة تنفيذ الإصلاحات؛ ذلك أنّ مبادراتٍ عديدة لم تُنفَّذ أبدًا - سواء أكانت تتعلّق بالقطاع المصرفي، أم بالتحقيقات في الفساد أم بالقطاع المالي للدولة - نتيجة تكاتُف الطغمة الحاكمة بأكملها. وتشير أصابع الاتِّهام إلى تواطؤ معظم هذه الأحزاب في الانهيار المالي للبلاد والتستُّر على انفجار المرفأ.

فعلى سبيل المثال، إنّ جهود إعادة هيكلة النظام المالي، باتّباع خطّة لازارد التي طرحتها حكومة دياب، عرقلَتْها، على الفور، لجنة برلمانية تمثّل جميع الأحزاب الحاكمة - تشمل التيّار الوطني الحرّ، والقوّات اللبنانية، وحركة أمل، وحزب الله، والحزب التقدُّمي الاشتراكي، وحزب العزم، وحركة الاستقلال - ما أدّى إلى تزايُد معدّلات الفقر، وعدم المساواة، وموجات الهجرة. وقد وافقت النخبة نفسها على تمديد ولاية حاكم مصرف لبنان رياض سلامة، على الرغم من مشاركته في وضع السياسات النقدية الكارثية في البلاد، كما أنّها تُواصِل عرقلة تنفيذ قوانين مراقبة رؤوس الأموال، وإعادة الهيكلة المصرفية المطلوبة لتنفيذ الاتِّفاقية على مستوى الموظَّفين بين الحكومة اللبنانية وصندوق النقد الدولي. وقد كانت لهذه السلطة السياسية الحاكمة سوابق كثيرة أخرى، إذ تعهَّدت مرارًا وتكرارًا، قبل الأزمة المالية التي شهدها العام 2019، بتنفيذ الإصلاحات في مؤتمرات الجهات المانحة الدولية - التي يُشار إليها عادةً باسم مؤتمر باريس الأوّل والثاني والثالث، ومؤتمر سيدر لعام 2018 - لكنّها لم تفِ بتعهُّداتها إلّا نادرًا.

بالإضافة إلى مقاومة الإصلاح، فقد سعت الطغمة الحاكمة إلى إضعاف الدولة، وهو ما زاد صعوبة تنفيذ التغييرات المهمَّة. لا يخفى أنّ الإدارات العامة تعاني نقصًا حادًّا في عدد الموظَّفين، إذ تشهد الوظائف الثابتة شغورًا بنسبة تصل إلى 70 في المئة بسبب التضخُّم المفرط الذي جعل الرواتب عديمة القيمة تقريبًا. وفي الوقت ذاته، يبرز اعتماد كبير على استشاريّين مُؤقَّتين يعملون، في كثير من الأحيان، في هياكل موازية خارج نطاق البيروقراطية الرسمية، ويخدمون مصالح النظام بدلًا من مصالح الدولة أو المجتمع. ويُفضي ذلك إلى تقويض المساءلة، وإضعاف الذاكرة المُؤسَّسية، وتراجُع حادّ في الإنتاجية كلّما تغيّر كبار المسؤولين أو الوزراء. ونظرًا إلى معاملة البيروقراطية، إلى حدّ كبير، بوصفها جهة تابعة وليست شريكة في الحكم، تتضاءل فرص استمرارية السياسات أو تنفيذها بفعالية.

من ناحية أخرى، لم تكن الجهات الفاعلة الدولية تتدخّل في السابق لإعادة الاستقرار في لبنان إلّا عندما كانت مصالحها الإستراتيجية تقتضي ذلك، سواء لاحتواء التداعيات الإقليمية أو الحفاظ على الترتيبات الأمنية، ولا سيّما في ما يتعلّق باللاجئين. وقد قُدِّمت المنح والقروض مرارًا وتكرارًا، كما في مؤتمرات باريس وسيدر، ما شكَّل خطّة إنقاذ مالي فعّالة للطبقة السياسية، مع الإنفاذ الضعيف لشروط الإصلاح.

ما الذي بوسع الإدارة الجديدة تقديمه؟ 

نظرًا إلى غياب حكومة ذات سلطة تشريعية - وهو ما سهَّل في الماضي تحقيق إنجازات في ظلّ الإدارات الإصلاحية السابقة - يجب على السلطة التنفيذية الجديدة أن تقبل احتمالية مُواصَلةِ النخبةِ المُترسِّخةِ عرقلةَ مسارات الإصلاح التقليدية، ولا سيّما تلك التي تتطلّب موافقة البرلمان.

ومع ذلك، تبرز وسائل مُجدِية لاستغلال هذه الفرصة الضئيلة لإرساء الأساس لتحوُّل أعمق في المستقبل. إذ ينبغي للحكومة، في بادئ الأمر، أن تضع رؤية إستراتيجيّة للبنان، في ضوء التغيُّرات الإقليمية، تقوم على المشاركة العامة واسعة النطاق. فمنذ انهيار النموذج الاقتصادي السابق، لم يُعقَد نقاش مفيد بشأن آفاق البلاد على المدى الطويل. وبالرغم من أنّ ذلك لا يتطلّب إجراءات تشريعية، فإنّه يتطلّب عقد حوار شامل شفّاف مع المجتمعات المحلِّية، ومُؤسَّسات الأعمال والمُؤسَّسات العمّالية، وفئات المجتمع المدني، ومراكز الفكر، والجاليات اللبنانية. ويمكن أن يؤدّي تنفيذ رؤية واضحة ومشتركة لمستقبل البلاد - على الصعيد السياسي والاقتصادي والاجتماعي - إلى تحفيز المجتمع حتّى في هذه البيئة الغامضة، ما يتيح خارطة طريق للحكومات الحالية والمستقبلية.

علاوةً على ذلك، بوسع الحكومة أن تشرع في إرساء ثقافة حَوكَمة أكثر شفافية وتشارُكية. ويمكن للإدارة أن تعيد بناء الثقة من خلال التواصل الصادق والمُنتظِم مع المواطنين، ومشاركة البيانات المتعلِّقة بالميزانيات والنفقات، ودعوتهم إلى إبداء ملاحظاتهم بشأن القرارات السياسية الرئيسة. ولن يساعد إشراك المجتمعات المحلِّية والمجتمع المدني في مراقبة برامج الحكومة على الكشف عن الفساد فحسب، بل سيمنح المواطن العادي أيضًا شعورًا بالمسؤولية في تعافي البلاد.

بغضّ النظر عن الرؤية التي ستضعها الحكومة، ينبغي لها أيضًا إعادة بناء مُؤسَّسات الدولة. ويمكنها استهلال ذلك بالتخلُّص من العوائق غير التشريعية التي قوّضت جهاز الدولة. ويحتاج القطاع العام، بصورة عاجلة، إلى إعادة التوازن في الأجور للاحتفاظ بالموظَّفين أصحاب المهارات. وبدلًا من الإبقاء على هياكل الاستشاريّين المُؤقَّتة، يمكن للحكومة دمج الاستشاريّين ذوي الكفاءة في وظائف الخدمة المدنية الدائمة. وبفضل الدعم الذي تقدّمه الجهات المانحة، يمكن لقطاع الخدمة المدنية أيضًا إعادة بناء قدراته من خلال برامج التدريب المُخصَّصة، ومبادرات التوظيف، وجهود إعادة استقطاب الأفراد المُؤهَّلين الذين تركوا وظائفهم. وفي حين أنّ هذه التدابير قد تبدو تدريجية، إلّا أنّها ضرورية لاستعادة أداء البيروقراطية ورأب الصدع بين صياغة السياسات وتنفيذها.

على الرغم من أنّ احتمالات تحقيق إصلاحات واسعة النطاق تظلّ منخفضة في ظلّ القيود السياسية، يمكن لحكومة رئيس الوزراء سلام، أقَلّه، غرس بذور المستقبل. فمن خلال تطبيق الخيال السياسي للطعن في شرعية الطغمة المترسِّخة، وتشكيل دائرة انتخابية أوسع نطاقًا لإرساء مشروع سياسي جديد، يمكن للإدارة الجديدة أن تساعد على رسم مسار أكثر تفاؤلًا للبنان، حتّى ولو لم تُؤتَ ثمار الإصلاح الحقيقية إلّا على يد الحكومات اللاحقة.

 


Related Output

view all

From the same author

view all

More periodicals

view all
Search
Back to top