- eng
-
- share
-
subscribe to our mailing listBy subscribing to our mailing list you will be kept in the know of all our projects, activities and resourcesThank you for subscribing to our mailing list.
أسباب افتقار لبنان إلى نظام تقاعديّ
يفتقر لبنان، تمامًا كدولة أخرى في المنطقة و16 دولة أخرى على مستوى العالم، لنظام تقاعديٍّ لجميع سكانه. ولعلّ هذه المشكلة أكثر تجذّراً من سوء الإدارة الفاضح لخطط الحماية الاجتماعية في البلاد وتشكّل مثالاً واضحاً عن نموذج الاقتصاد السياسي الذي يرعاها. في الواقع، يعتبر غياب البرامج التقاعدية دليلاً على هيمنة الطبقة الحاكمة على موارد الدولة والبنى الهرمية للرعاية الاجتماعية التي تقوم على الولاء السياسي.
أدى الانهيار المالي إلى تبعاتٍ جسيمةً طالت الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي. وكونه المقدّم الأكبر لخدمات الضمان الاجتماعي في البلاد، أدى ذلك إلى دقّ المسمار الأخير في نعش هذه المؤسسة التي قضت عليها الطبقة السياسية الحاكمة. وفي حين أدى انهيار الصندوق إلى بروز ثغرات كبيرة على مستوى التغطية، لا سيما تقديمات الرعاية الصحية والشيخوخة، توفّر الحالة الراهنة فرصةً لإصلاح أنظمته الضعيفة إصلاحاً جذرياً، بدءاً باعتماد نظام تقاعدي جديد.
لمحة عامة عن المعاشات التقاعدية في لبنان
يعدّ نظام الضمان الاجتماعي المعمول به في لبنان مفكّكاً للغاية، إذ تغطّي جهات مختلفة أنواعاً متعددة من الأفراد الموظفين والمتقاعدين، أبرزها الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي، وخطة التقاعد العسكري وتعاونية موظفي الدولة.
أعدّ قانون الضمان الاجتماعي لعام 1965 برنامجاً لتعويضات نهاية الخدمة يديره الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي ويُعنى بتسديد تعويضات نهاية خدمة للأفراد على شكل مبلغ مقطوع. ومع أنّ هذا البرنامج التقاعدي قد وُضع في الأساس كتدبير مؤقت لحين اعتماد برنامج تقاعدي في البلاد، لا يزال يُعمل به حتى الآن بعد 57 عاماً.
عدم فعالية هذا النظام واضحة، فهو متاحٌ حصرًا لموظفي القطاع الرسمي، وتستثنى منه شريحة واسعة من العاملين في لبنان. كما أنه يفرض ضغوطاً على أصحاب العمل والموظفين على حدٍّ سواء. في الواقع، يُفترض أن يغطّي آخر ّصاحب عمل للموظف جزءاً مهماً من المبلغ المقطوع المستحق عند التقاعد، ما يؤدي إلى ضغوطاً مالية على المؤسسات التجارية الصغيرة ويدفع بها نحو اعتماد العمل بشكل غير رسمي. كما أنّ المبلغ المقطوع المسدد للمتقاعد لا يكفي ليؤمّن له دخلاً آمناً خلال فترة تقاعده. وترجّح بعض التقديرات، حتى قبل نشوء الأزمة، أنّ مبلغ التعويض التقاعدي المقطوع عن 30 سنة خدمة لا يكفي إلا لحوالي 7 سنوات من الفترة التقاعدية، علماً أنّ أمد الحياة المتوقع لهذه الفترة لا يقلّ عن ضعف هذه المدة1. وأدى التضخم والتدهور الذي يشهده لبنان اليوم في قيمة العملة الوطنية، إلى خسارة تعويضات نهاية الخدمة التي سبق وتقاضاها أصحابها، كما المبالغ التعويضية التي يراكمها الموظفون حالياً، 90% من قيمتها.
من ناحية أخرى، يتمتع موظّفو الخدمة المدنية بنظام مختلف من التقديمات، إذ يحصلون على تقديمات أفضل بكثير من تعاونية موظفي الدولة. فلهم حريّة الاختيار بين تقاضي تعويض تقاعدي مقطوع أو برنامج تقاعدي لمدى الحياة يتلّقون بموجبه مبلغاً شهرياً يوازي 85% من آخر راتب شهري تقاضوه. وخلافاً للتعويضات المقطوعة، يمكن تعديل المعاشات التقاعدية وفق نسب التضخم. أما العسكريون وعناصر الأمن، فينالون ضمانات إضافية وأعلى من حيث القيمة. وفي حين أنّ قيمة تعويضات موظفي الخدمة المدنية والعسكريين قد تآكلت بفعل التضخم، حمّل النموذج التمويلي غير المتكافئ المكلّفين عبء تمويلها. في الحقيقة، يستحوذ القطاع العام على ثلثيّ الإنفاق الحكومي المخصص للمسنّين والناجين2.
جذور الاقتصاد السياسي
برزت محاولاتٌ عدّة لإصلاح خطة تعويض نهاية الخدمة، بدءاً بمسودة قانون ضمان الشيخوخة لعام 2004. إلا أنها تعثّرت وعجزت كلها حتى اليوم عن تأسيس نظام قابل للحياة. وتجدر الإشارة هنا إلى أن ضعف النظام الحالي ومقاومته للإصلاح لا يعودان إلى انعدام الحلول الفنية أو إلى الثغرات القائمة على مستوى القدرات المؤسسية والمالية، بل على خيار سياسي مقصود يهدف إلى خدمة مصالح الطبقة الحاكمة للبلاد.
تراتبية العمّال والولاء السياسي
تشكّل الامتيازات الممنوحة إلى موظفي الخدمة المدنية والعسكريين مظهراً من مظاهر العلل البنيوية التي تشوب النظام السياسي اللبناني. وقد تمّ استغلال الإدارة اللبنانية التي عُرفت بعدم كفاءتها كوسيلة أساسية لتوظيف أتباع ومناصري الأحزاب السياسية التقليدية في البلاد على أساس المحسوبيات. في الواقع، حصلت تكلفة الموظفين الحكوميين على حصة الأسد في موازنة الدولة اللبنانية منذ نهاية الحرب الأهلية، إذ تناهز هذه الحصة نسبة 37% من إجمالي النفقات. وأدّى هذا النظام إلى ترسيخ تراتبية للعمّال تختلف فيها مستويات المزايا الاجتماعية المقدمة إليهم بحسب ولائهم وعملهم لصالح الطبقة الحاكمة. وقد فضّل النظام بطبيعة الحال الجهاز الأمني والقضائي في المقام الأول، وفي المقام الثاني، باقي موظفي الخدمة المدنية، وذلك على حساب المكلّفين. كما حلّ موظفو القطاع الرسمي الخاص في المرتبة الثانية ما قبل الأخيرة في التراتبية هذه، وتُرك موظفو القطاع غير الرسمي في الطبقات الدنيا.
نتيجة للأزمة الحالية، يشكّل العاملون غير الرسميين وغير النظاميين النسبة الأكبر (62%) من القوى العاملة.3 وعلى الرغم من ذلك، عزّزت الطبقة الحاكمة هذه التراتبية، مفضّلة الموظفين الحكوميين وأفراد الأسلاك العسكرية على العاملين في القطاعين الرسمي وغير الرسمي الذين تركوا لمصيرهم. في الواقع، صبّ 74% من الإنفاق الاستنسابي في البلاد المموّل من احتياطي الموازنة أو من تحويلات الخزينة منذ شهر آب 2019 في مصلحة الموظفين الحكوميين4، مع العلم أنّ الحكومة ما زالت تدين للصندوق الوطني للضمان الاجتماعي بما يقارب الـ 4 تريليون ليرة لبنانية.5
نظام ضمان اجتماعي قائم على نموذج بونزي
استولت الطبقة الحاكمة في البلاد على الموارد المالية للصندوق الوطني للضمان الاجتماعي، على غرار مؤسسات الدولة الأخرى. في الواقع، ضمّت 81% من أصول الصندوق سنة 2018 سندات خزينة أو متأخرات على الدولة أو حسابات مصرفية مجمّدة حالياً لدى القطاع المالي.6 ولكن، بات جزء كبير من هذه الأصول اليوم غير قابل للاستخدام كون الدولة والقطاع المصرفي في حالة عجز.
وبالتالي، لم يكن التمويل المخصص لتقديمات الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي قبل الأزمة يمرّ في محفظة أصول مُدراة بشكلٍ سليم، بل من خلال الفرع الوحيد "المربح" من فروع الصندوق، ألا وهو صندوق تعويضات نهاية الخدمة. وكان هذا الصندوق مصمماً بحيث يدرّ الفوائض، إذ يُفترض برب العمل الأخير الذي عمل لديه المتقاعد سدّ أي فجوة بين الحسابات المتراكمة بفعل المساهمات والمبالغ المقطوعة المستحقة. كما يلجأ الكثير من المنتسبين الذين يكونون بحاجة للدخل إلى سحب تعويضاتهم قبل التقاعد ويخضعون لغرامات على حساباتهم المتراكمة. وأخيرًا، لا يتمتع البعض، وعلى الرغم من مساهمتهم، بأهلية الحصول على تعويضات نهاية الخدمة كونهم لا يستوفون كافة شروط الأهلية.
في الحقيقة، يدار الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي وفقًا لآلية تشبه إلى حدٍ كبير نموذج بونزي الذي يوفر التقديمات من خلال فروع أخرى استنادًا إلى فوائض فرع صندوق تعويضات نهاية الخدمة وليس استنادًا إلى إدارة سليمة لأصول الصندوق.7 واستخدم الفارق لتمويل دولة فاسدة بشكلٍ مفضوح أو صبّ في القطاع المصرفي نفسه الذي يقوم على نموذج بونزي والذي بات معروفًا للعموم. وبالتالي، فإنّ إبقاء برنامج تعويضات نهاية الخدمة على حاله من دون إصلاحات قد عزّز استمرارية هذا النظام.
فرصة سانحة لإدخال إصلاحات
لم يعد نموذج برنامج تعويضات نهاية الخدمة التابع للصندوق الوطني للضمان الاجتماعي يوفّر حاليًا تقديمات شيخوخة مناسبة للمتقاعدين، إذ فقدت المدخرات المتراكمة على مدى السنوات قيمتها بفعل التضخم وتبخرت المدخرات الشخصية ولم تعد متاحة لغالبية الناس.
إنّ هذه العوامل مجتمعةً قد خذلت جيلًا كاملًا من موظفي الطبقتين المتوسطة والدنيا النظاميين، من حيث أثرها المدمر في تسريع إفقار كبار السن، في وقتٍ يعجز فيه نظام الحماية الاجتماعية الصحية عن تقديم الخدمات ويواجه فيه المسنون ارتفاعًا هائلًا في النفقات الصحية.
وفي ظل عدم وجود أي آلية تعاضدية أخرى لتمويل نظام المعاشات التقاعدية في مختلف القطاعات بين العاملين أرباب العمل وعلى مر الأجيال، لم يعد أمامنا سوى خيارين لا ثالث لهما: إما سيطلَب من أرباب العمل - من خلال آليات سداد المستحقات - إعادة هيكلة النظام التقاعدي أو لن يتمكن هذا النظام من التعافي أبدًا.
وبالتالي، لا بد من تأسيس نظام تقاعدي شامل للجميع بغية توفير الحماية للمسنين. وهذا يستوجب إقرار القانون، الذي ما زالت مسودته قابعة في أدراج مكاتب مجلس النواب، والذي يهدف إلى تنفيذ إصلاحات في فرع تعويضات نهاية الخدمة من خلال وضع خطة تقاعدية للعاملين في القطاع الخاص مطابقة للحد الأدنى من المعايير الدولية للضمان الاجتماعي وتحسين نموذج الحوكمة للصندوق الوطني للضمان الاجتماعي، بالإضافة إلى إنشاء ركيزة عامة أساسية للنظام تسمح بتوفير للحماية للمسنين الذين عملوا في القطاع غير النظامي، أو عملوا بشكلٍ متقطع أو جرى استبعادهم من سوق العمل. يعتبر تأسيس نظام تقاعدي اجتماعي شامل مموّل من الضرائب خطوة جوهرية إلى جانب خطوات أخرى لتأسيس أرضية للحماية الاجتماعية تضمن تحصين الجميع من المشاكل التي يتعرّضون لها خلال حياتهم، وتقدّم لهم دعمًا ماليًا أساسيًا يمنع انزلاقهم إلى ما دون خط الفقر.8
يساعد إصلاح الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي في مواجهة الوضع السائد المتمثل في نظام محسوبيات يتعامل مع الحماية الاجتماعية على أنها امتياز وليس حقًا مكتسبًا.
1 تقديرات منظمة العمل الدولي (غير منشورة)
2 معهد باسل فليحان المالي والاقتصادي. 2021. "الإنفاق على الحماية الاجتماعية في لبنان – تدقيق في نُظم الحماية الاجتماعية الممولة من الدولة".
3 إدارة الإحصاء المركزي ومنظمة العمل الدولية. 2022. " مسح القوى العاملة في لبنان - كانون الثاني (يناير) 2022"
4 س. الصغير، و. مكتبي. 2022. "الإنفاق الاستنسابي في لبنان إرضاءً لموظفي القطاع العام." The Policy Initiative
5 ك. مرهج، وك. شهيّب. 2022. "القصة الكاملة وراء الانهيار الوشيك للصندوق الوطني للضمان الاجتماعي". موقع The Public Source
6 المرجع نفسه
7 المرجع نفسه
8 "الاستجابة لحالات الطوارئ في مجال الحماية الاجتماعية" (المركز اللبناني للدراسات، 21 كانون الثاني 2020)
From the same author
view allMore periodicals
view all-
06.14.24
عطاالله: التدّخل السياسي عقبة أمام تطوّر الإدارة العامة
سامي عطا اللهمقابلة مع مدير مبادرة سياسات الغد الدكتور سامي عطاالله أكد أن "التدخل السياسي هو العقبة الرئيسية أمام تطور الإدارة العامة"، وشدد على أن دور الدولة ووجودها ضروريان جدًا لأن لا وجود للاقتصاد الحر أو اقتصاد السوق من دونها"
اقرأ -
10.27.23eng
تضامناً مع العدالة وحق تقرير المصير للشعب الفلسطيني
-
09.21.23
مشروع موازنة 2023: ضرائب تصيب الفقراء وتعفي الاثرياء
وسيم مكتبي, جورجيا داغر, سامي زغيب, سامي عطا الله -
09.09.23
بيان بشأن المادة 26 من مشروع قانون الموازنة العامة :2023
-
08.24.23
من أجل تحقيق موحد ومركزي في ملف التدقيق الجنائي
اقرأ -
07.27.23
المشكلة وقعت في التعثّر غير المنظّم تعليق دفع سندات اليوروبوندز كان صائباً 100%
-
05.17.23
حشيشة" ماكينزي للنهوض باقتصاد لبنان
-
01.12.23
وينن؟ أين اختفت شعارات المصارف؟
-
10.12.22eng
فساد في موازنة لبنان
سامي عطا الله, سامي زغيب -
06.08.22eng
تطويق الأراضي في أعقاب أزمات لبنان المتعددة
منى خشن -
05.11.22eng
هل للانتخابات في لبنان أهمية؟
كريستيانا باريرا -
05.06.22eng
الانتخابات النيابية: المنافسة تحجب المصالح المشتركة